ـ بقلم حميد وضاح
عندما تهيئ لك صدفة من الصدف جلسة مع أحد أبناء سيدي قاسم الذين عاصروا التواجد الفرنسي و اليهودي بالمدينة، فلن تسمع منهم إلا التأفف و الحسرة على زمن عاشته مدينتهم كانت تتربع فيه على عرش المدن المنظمة و الخضراء و على نمط العيش الغربي الذي كانت تعيش حياته بأدق تفاصيله…و هم إذ يتأسفون على ماضي مدينة قد مات و ولى، فلأنهم ما عادوا يجدون في حاضرها ما ينسيهم ما عاشوه في ماضيها.مما يدل على أن ماضيها كان أحسن بكثير من حاضرها و لهذا الشعور ما يبرره من دوافع و أسباب إذ فقدت المدينة الكثير من ماضيها على كافة الأصعدة و المجالات كالفلاحة و الصناعة و التعليم و الثقافة و الرياضة و الخدمات….الشيء الذي يدفعك، تحت ضغط الفضول و حب الانتماء لهذه المدينة التي شهدت صرختنا الأولى و آوتنا و المساهمة في الحفاظ على ذاكرتها…، إلى البحث في حقيبة المدينة في هذه الفترة لفك تشفيراتها و ألغازها، و البحث في تاريخها ،في ذاكرتها، في معمارها، في ثقافتها، في رياضاتها، في مدارسها، في مؤسساتها….،وفي ناسها.
فما هي التحولات التي عرفتها سيدي قاسم في هذه الفترة؟ وكيف عاش فيها المعمرون الفرنسيون و ما هي مختلف الأنشطة التي مارسوها في مدينة Petit Jean ؟ وكيف عاش اليهود و المسلمون جنبا لجنب في هذه المرحلة؟
إن تحول سيدي قاسم من مجمعات سكنية متناثرة…إلى مدينة منظمة إن المميزات الجغرافية و الطبيعية التي تحفل بها المدينة كانت وراء استوطانها من لدن المعمر الفرنسي، إذ تسابق عليها و أقام بها مختلف الأنشطة الإنتاجية و الخدماتية و الترفيهية… منذ سنة 1911،حيث أقام الاستعمار قلعة ” petit jean” على منحدرات “بودرا” لتمهيد استيطان المنطقة. و في سنة 1919 سيتم اكتشاف البترول بجبل سلفات مما أهلها إلى أن تتحول إلى مركز حضري.كما أنه سيتم اكتشاف البترول مرة أخرى سنة 1923 بالعين الحمراء، مما شجع على توسع المركب الاستعماري بالمدينة ما بين 1920 و 1936، كما تم إقامة خط السكة الحديدية الرابط بين الرباط و فاس و في سنة 1927 سيتم إقامة الخط الرابط بين طنجة و فاس.
و في سنة 1929 سيقيم الاستعمار الفرنسي شركة لتكرير البترول التي ستأخذ، فيما بعد، اسم الشركة الشريفة للبترول، و التي ستعطي دفعة قوية للتطور الحضري بكل أبعاده البشرية و الاقتصادية و العمرانية،حيث ستشكل المدينة قبلة للعديد من المهاجرين، إضافة إلى المعمرين الفرنسيين، من كافة أنحاء المغرب نذكر منها على الخصوص مدينة فاس و مكناس و سلا و الرباط و منطقة تافيلالت، حيث سكنوا المدينة بعدما جلبوا معهم مختلف ثقافاتهم و تقاليدهم و مهاراتهم الحرفية مما أعطى للمدينة روحا و دينامية جديدة، كما كانت هذه الهجرة وراء ارتفاع عدد السكان إذ انتقل عدد المغاربة سنة 1926 من 1257 إلى 12463نسمة سنة 1951، كما انتقل عدد السكان الفرنسيون، في نفس الحقبة التاريخية، من 321 إلى 1951نسمة، كما انتقل عدد اليهود بالمدينة من56 إلى 85 نسمة مع ملاحظة أن عدد اليهود قد تناقص بالمقارنة مع عدد الأهالي و المعمرين.
أما عن سبب الهجرة إليها من طرف هؤلاء السكان فالأمر يرتبط بكافة التسهيلات التي كان يقدمها المعمر لإعمار المدينة و توفير اليد العاملة و كذلك غنى المنطقة و توفرها على كافة المؤهلات الطبيعية. و عموما لقد ساعد الاستعمار على انتقال سيدي قاسم من طابعها الريفي إلى حالة التحضر و التمدن، إلا أن السياسة التميزية بين الأهالي و المعمرين التي نهجتها سلطة الحماية في المغرب بدت معالمعها جد واضحة بسيدي قاسم، حيث قسم المدينة إلى قسمين: قسم خاص بالأهالي و سمي ب”كبار” و قسم آخر خاص بالمعمرين و هو القسم الذي احتوى مختلف الأنشطة الاقتصادية و التجارية و مختلف المؤسسات الإدارية و التعليمية و الرياضية و قاعات الترفيه…
و في هذه الحلقة سنسلط الضوء على المدينة الأوربية حتى نقف على مختلف المميزات و الظروف التي عاش في كنفها المعمرون الفرنسيون. الصناعة، منذ أن دخل المعمر الفرنسي المدينة عمل على إقامة صناعة مختلفة و قوية لتأمين كل احتياجاته. ومن أهم الصناعات التي أقامها بالمدينة هي الصناعة البترولية، حيث ساعد اكتشاف البترول بجبل سلفات و بالعين الحمراء و ضواحي أوطيطة على إقامة وحدة صناعية للتنقيب عن النفط و تكريره.وقد استطاعت أن تغطي نسبة مهمة من حاجيات المغرب من المواد النفطية، حيث استطاعت أن تغطي %15 من الحاجيات سنة 1954، كما استطاعت أن تشغل العديد من الأيدي العاملة، حيث كانت تشغل 173 من المغاربة مقابل 73من الأروبيين .كما نشطت بشكل كبير صناعة البناء، حيث اضطلعت بمهمة توفير كافة المواد الأولية لبناء مساكن الأروبيين و تجهيز المدينة، وهنا نذكر على الخصوص معمل الأجور و القرميد مراكش و كانت تسوق منتوجاتها داخل المدينة و نواحيها. كما تميزت المدينة بالصناعة الغذائية، ويأتي على رأس المصانع التي كانت تهتم بالصناعة الغذائية مصنع الحلويات شوفري” و كان يعتمد في عملية التصنيع، من المواد الأولية إلى التلفيف و التوزيع، على الإمكانيات الذاتية و كانت منتوجاته تصل مدن الشمال و الشرق.كما كان يتواجد بالمدينة معمل لطحن “النيورا” و مصنع لتوفير الثلج لأصحاب المحلات التجارية و أرباب الحانات.