أنا الخبر ـ الصباح
“لقد صرحنا مرارا بأن سياستنا الاقتصادية والاجتماعية استهدفت إغناء الفقير دون تفقير الغني. لكن مع الأسف الشديد، لأسباب لا داعي للرجوع إليها، لاحظنا أنه بقدر ما أن الفقير لم يغتن، زاد الغني ثراء”، كان ذلك بمثابة اعتراف من الملك الراحل، في أحد خطاباته، بأن الفساد كان مستشريا، وأن ذوي نفوذ راكموا الثروات على حساب تفقير الشعب، وهو الخطاب الذي تلا فضيحة الوزراء الستة في حكومة مولاي أحمد العراقي.
كادت أمواج القضية التي تفجرت في بحر 1971 أن تهشم صخور الفساد وتقطع جذوره وتكون اللبنة الأولى لقانون يربط المسؤولية بالمحاسبة، ويرسخ مبدأ “من أين لك هذا؟” ، إلا أنه بحركة جزر غريبة طوي الملف بسرعة، وعاد المتورطون إلى بيوتهم بعد قضاء مدة يسيرة في سجن لعلو بالرباط.
خروج المعتقلين في هذا الملف الأول من نوعه في عهد الملك الراحل الحسن الثاني سيضع حدا لأمل المغاربة في محاربة الفساد وقطع الطريق على الذين يخوضون غمار السياسة لتدبير شؤونهم الخاصة وليس تدبير شؤون البلاد.
محمد الجعيدي، وزير التجارة والصناعة، عبد الحميد كريم، وزير السياحة، عبد الكريم الأزرق، وزير للأشغال العمومية، يحيى شفشاوني، وزير أسبق للأشغال العمومية ومدير سابق لمكتب الأبحاث والمساهمات المعدنية، ومامون الطاهري، وزير المالية، هذا بالإضافة إلى رجل الأعمال عمر بنمسعود وثلاثة موظفين سامين ورجال أعمال مغاربة. كانت هذه لائحة المتهمين في ملف تراوحت الأحكام فيه ما بين 12 و4 سنوات، وإسقاط الدعوى عن مسؤول واحد وهو محمد العمياني والبراءة لعبد الكريم الأزرق، دون مصادرة أموال أي واحد منهم، علما أن بعضهم فتح حسابات في بنوك سويسرية حيث راكم أموال الرشاوي التي كان يتلقاها من تهريب المعادن.
وبقدر ما كانت الأحكام مخففة قبل أن تنتهي بعفو، بقدر ما كان الأمر مخيبا، خاصة أن المتهمين لم يتابعوا بأي تهمة تتعلق بهدر المال العام.
قبل أن تنفجر القضية بعد انقلاب الصخيرات، حاول المقربون من القصر آنذاك أن يبددوا دخانها المتصاعد في سماء البلاد، إلا أنهم أخطؤوا الوسيلة فانشغلوا بالدخان، فيما النيران تتأجج أكثر، ليمتد لهيبها إلى العلاقات المغربية الأمريكية، حينها أرسل الملك الراحل مبعوثه الجنرال المذبوح إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليعود منها بالنبأ اليقين، فالشركة الأمريكية “بانام” التي كانت تستعد لإنجاز مشروع مركب سياحي ضخم بالدار البيضاء وبالضبط في ساحة الجامعة العربية، اصطدمت بشخصيات مغربية نافذة تطالبها بأداء رشاو عن كل متر مربع للحصول على العقار المناسب، ما جعل مسؤوليها ينقلون شكاواهم إلى الدوائر العليا في البيت الأبيض.
الغضبة الأمريكية سينقلها الجنرال محمد المذبوح إلى الحسن الثاني بالتفاصيل المملة، قبل أن يتم اعتقال رجل الأعمال المشهور آنذاك، عمر بنمسعود، والذي سيعترف بعد ثلاثة أيام من إيقافه بكل عمليات الرشاوي التي يتلقاها كبار المسؤولين في البلاد ومنهم ستة وزراء، وبصفقات مشبوهة واستغلال نفوذ وغيرها من الجرائم التي ارتكبها سياسيون يقعون في أعلى هرم السلطة. ورغم أن الوزير الأول في تلك الفترة مولاي أحمد العراقي أكد أن الحسن الثاني وبخ وزراءه وعفا عنهم، قبل تفجر الملف قضائيا، إلا أنه بعد بضعة أشهر وبعد الانقلاب الذي قاده المذبوح، سيساق الوزراء والمسؤولون النافذون إلى السجن وستشرع محكمة العدل الخاصة آنذاك في محاكمتهم بتهم ثقيلة، قبل أن يفاجأ الرأي العام المغربي الذي صفق للمبادرة بداية، بالأحكام الصادرة في حقهم، والتي كانت مخففة بالمقارنة مع الجرائم التي المرتكبة.
قبل أن تبدأ تفاصيل المحاكمة الشهيرة كان الوزير الأول العراقي قد اشتكى وزراءه المفسدين إلى الملك، إلا أن الحسن الثاني طالبه بالدليل القاطع، إذ كانت الشركة ترغب في إنجاز مشروع ضخم يهم إنجاز مركب سياحي في ثكنة عسكرية قريبة من حديقة جامعة الدول العربية، إلا أن الطريق إلى الأرض المخصصة لذلك كانت مستحيلة نتيجة العوائق التي وضعها المتورطون في الملف في طريق الاستثمار الأجنبي في البلاد.
ورغم أن الملف الذي فجر القضية كان يتعلق بشركة “بانام” إلا أن هذا الخيط سيقود إلى 27 قضية أخرى، تتعلق كلها بالفساد في معامل السكر والبترول بسيدي قاسم، وبيع الأسمدة، والتنقيب عن البترول وبيع معدن الرصاص والحديد و إنتاج الكهرباء.