إذا ذُكرتْ لنا كلمة القلب هذه الأيام في حديث عابر أو ورَدَتْ في قصيدة شعرية، فما الذي يخطر في بالنا؟ لعل أول ما يرد إلى البال هو الحب والعشق والغرام وحرقة الأشواق، وكل ما يتعلق بالعواطف والمشاعر الجياشة …
وربما خَطَر لبعضنا وجود علاقة بين القلب والعقل والأفكار … ولعل قلّة قليلة منا تفكّر بالقلب على أنه تلك العضلة القوية التي تَخفق في الصدر.
أما في معاجم اللغة فنَجد في لسان العرب: القلب: هو مضغة من الفؤاد معلَّقة بالنِّياط. القلب (الفؤاد)، وقد يُعبَّر بالقلب عن العقل.
جاء في القرآن الكريم: “إن في ذلك لذكرى لمَن كان له قلب”، أي تَفهُّم وتَدبُّر. وقال بعضهم: سُمِّي القلبُ قلباً لتقلُّبه، إذ جاء في الشعر:
“ما سُمّيَ القلبُ إلا مِنْ تقلبه والرأي يَصرف للإنسان أطوارا”
ونَجد في المعجم الوسيط أن العقل هو القلب، ونَجد كلمة “الدماغ” في باب “دَمَغَ” بمعنى طَبَعَ ووَسَمَ، ونَجد أن العقل هو القلب.
من المهم أن أشير إلى أننا نَجد كلمة القلب في باب:
“قَلَبَ”، بمعنى قلَبَ الشيء أي جَعل أعلاه أسفله، أو باطنه ظاهره.
وأتساءل: هل نُسِب القلب إلى التقلّب حقًّا؟
أم أن العرب استخدَمت هذه الكلمة لوَصف ما هو في داخل الجسم أو في باطنه ولُبّه، أو للتعبير عن الذات وما يتعلق بما في داخلها ذاتها، وذلك تمييزًا عما يحيط بها من خارجها؟
استُخدِمتْ كلماتٌ مثل: القلب واللبّ والفؤاد للتعبير عن العواطف والأفكار التي تنشأ في داخل أو في باطن الإنسان، وليس في ذلك بالضرورة تحديدٌ أو تعبيرٌ عن أن مَنشأ هذه العواطف والأفكار هو هذا العضو الذي يسمى القلب على وَجه التحديد والتخصيص.
استُخدمتْ كلمة “القلب” في اللغة العربية المعاصرة كاصطلاح لتسمية ذلك العضو العضلي النابض الذي يوجَد في الجهة اليسرى من تجويف الصدر، والذي وظيفته ضخّ الدم إلى الجسم في دورة دموية ضرورية للحياة.
وهذا مفهومٌ مَبنيّ على عِلم التشريح وعِلم وظائف الأعضاء في الطب الحديث بعد القَرن السابع عشر.
أما الأطباء القدامى منذ أيام البابليين فقد كانوا يعتقدون أن القلب هو منبع الروح وموطن العقل كما قال أرسطو.
وقد استَخدَم العرب كلمة العقل مَجازًا، لأن العرب وغيرهم من الأمم في العصور القديمة كانت تعتقد بأن القلب هو مركز العقل.
والتَصَقت كلمة العقل كإحدى مرادفات كلمة القلب، بل وانعدَم التمييز بين العقل والقلب في اللغة، حتى عندما نبحث عن كلمة القلب في أكثر المعاجم القديمة فإننا لا نَجد فيها ذِكرًا بأن هذه الكلمة تَصِف القلب كعضلة في تجويف الصدر، بل نجد المعاني الأخرى المَجازية فقط مثل العقل واللبّ والفؤاد.
أُجريتْ أول عملية لزرع القلب البشري سنة 1967 في إفريقيا الجنوبية على يد كريستيان برنارد Christiaan Barnard، كما وأُجريتْ أول عملية لزرع القلب الصناعي سنة 1969 في أمريكا على يد دنتون كولي Denton Colley، ومنذ ذلك الحين أُجريتْ هذه العمليات لآلاف من البشر.
وقد أَثبتَ زرع القلب وزرع القلب الصناعي بما لا يدع مجالًا للشك أنه لا توجَد علاقة بين العواطف والمشاعر والأفكار وبين القلب، إذ إن المرضى الذين زُرعتْ لهم قلوب بشرية طبيعية، أو قلوب مصنوعة من مواد معدنية وبلاستيكية، لم تتغيّر مشاعرهم نحو مَنْ كانوا يُحبّون، ولمْ تتغيّر آراؤهم وأفكارهم الأساسية.
وعلى الرغم مِن نَشر بعض الحالات القليلة التي لوحِظ فيها تغيّر في شخصية وانفعالات بعض المرضى الذين أُجريتْ لهم مثل هذه العمليات، فإنّ هذه التغيرات إنما ترجع في حقيقتها إلى الإجهادات التي يتعرّض لها هؤلاء المرضى بسبب سوء حالتهم الصحية قبل العملية، وبسبب ما يتعرّضون له من إجهادات جسمية ونفسية أثناء وبعد العملية.
هذا ما قالته اللغة … وذلك ما وَصفه العِلم والطب. لم يكن لدى الأقدَمين فكرة واضحة عن وظيفة القلب.
كان من الواضح أنه عضو مهم، وأن سلامته ضرورية للحياة، وأن تغيّرًا يصيبه في حالات الانفعال العاطفي، وأن مرَض القلب أو أذيته أو توقّفه عن العمل يؤدي إلى الموت … وبما أن نشأة اللغة وتطورها عبر الزمان قد توافَق مع هذه المفاهيم، فليس غريبًا أن تُعبِّر اللغة عن ارتباط القلب بالمشاعر وبالأفكار بل وبالحياة نفسها كما فهمها الإنسان على مر العصور.
ولكن تطور معلومات الإنسان عن الدور الحقيقي للقلب في الدورة الدموية، والدور الحقيقي للدماغ وعلاقته المثبتة بالأفكار والمشاعر توضح أن استِخدام الشعراء والأدباء لكلمة القلب هو من باب المَجاز على الرغم من مخالفته للدقّة العلمية في التعبير. وهذا مثل قولهم في تشبيه وَجه الحبيبة بالقمر رغم أن رماديّ كالِح مُجدَّر مُثقَّب كما رأيناه في صور الرحلات الفضائية في السبعينيات من القَرن العشرين.
كما أن بقايا نظرية العناصر الأربعة والأخلاط الأربعة والأمزِجة الأربعة في الطب القديم منذ أيام أرسطو وجالينوس ما زالت تُستخدَم في اللغة رغم إثبات خطئها العلمي الواضح، فما زلنا نتحدَّث عن المزاج الصفراوي والسوداوي في اللغة الأدبية، وما زلنا نتحدَّث أدبيًّا عن أمواج الأثير رغم انهيار نظرية الأثير اللازم لنقل الضوء عبر الكون انهيارًا علميّا تامًّا منذ أوائل القَرن العشرين ..!
هل يؤثر زرع الأعضاء على ذكريات المريض؟
في سنة 2021، تم إجراء أكثر من 144،000 عملية زرع أعضاء في العالم. كان منها نحو 8200 عملية زرع قلب.
ويتعرّض المريض قبل وأثناء وبَعد عملية زرع الأعضاء إلى إجهادات جسمية ونفسية مهمة لأنها عملية كبيرة تُجرى تحت التخدير العام، ويحتاج فيها المريض للبقاء في المشفى أيامًا عديدة وربما أسابيع، ويتناول أدوية مناعية قوية لمَنع رَفض العضو الجديد.
ومن أجل دراسة هذه الظاهرة علميًّا، قامت مجموعة من الباحثين في جامعة كولورادو الأمريكية بدراسة هذه التغيرات في الشخصية بعد عمليات زرع الأعضاء، وبحثوا عن نوعية هذه التغيرات بعد عمليات زرع القلب مقارنة بعمليات زرع أعضاء أخرى في الجسم.
تم اختيار عينة عشوائية لدى 47 مريضًا أجريت عملية زرع القلب لدَى 23 منهم، وعملية زرع عضو آخر غير القلب لدى 24 مريضًا منهم.
أجاب هؤلاء المشاركون على استبيانٍ للتحري عن التغيرات الشخصية في المشاعر والأفكار والذكريات بعد عملية زرع الأعضاء.
سَجَّل الاستبيان حدوث تغيرات مهمة لدَى 89 بالمئة من المشاركين بعد خضوعهم لعملية زرع الأعضاء، وكانت هذه التغيرات متشابهة بعد عملية زرع القلب أو بعد زرع أي عضو آخر غيره.
كان الفرق الوحيد المهم إحصائيًّا بعد عملية زرع القلب يتعلق بشعور المريض بسِماته وقدراته الجسدية physical attributes، بينما لم تسجَّل أي فروق شخصية مهمّة أخرى، ربما بسبب العدد القليل للمشاركين في الدراسة.
يشير التشابه في التغيرات الشخصية من حيث المشاعر والعواطف والذكريات والأفكار العامة بعد عمليات زرع القلب وعمليات زرع أعضاء أخرى في الجسم، مثل الكلية أو الكبد، إلى أن هذه التغيرات ترتبط غالبًا بعملية الزرع في حدّ ذاتها، وليس بالقلب على وَجه التحديد. وأن المرضى الذين يتلقّون عملية زرع القلب لا يتميزون بشكل مختلف من حيث تجربتهم الخاصة في تغيّر الشخصية عن غيرهم من المرضى الذين يخضعون لعملية زرع الأعضاء بشكل عام.
وهناك حاجة بالطبع لإجراء مثل هذه الدراسة على عدد أكبر من المرضى لتحديد الإجابة على هذه التساؤلات بشكل أكثر حسمًا.
ربما كانت عملية زرع القلب الصناعي التي جَرت في جامعة يوتا سنة 1982 هي أكثر هذه العمليات شهرة بسبب التحدث عنها كثيرًا في وسائل الإعلام آنذاك.
وكان المريض الذي زُرع له ذلك القلب الصناعي طبيب أسنان، وقد سأله الصحفيون أمام كاميرات التلفزيون فيما إذا كانت مشاعره نحو زوجته قد تغيّرت أم لا، وكان جوابه صريحًا وقاطعًا بأنه ما زال يحبّ زوجته الآن مثلما كان يحبّها من قَبل، وربما أكثر، على الرغم من أن قلبه المريض كان قد تمّت إزالته تمامًا من جسمه، وزُرع بدلًا عنه قلبٌ آلي مصنوع من مواد معدنية وبلاستيكية لا مشاعر فيها ولا أفكار ولا ذكريات.