“أخيرا”، أسلمَ عبد الرّحيم التونسي (عبد الرّؤوف) الرّوح لباريها، مُترجّلا عن صهوة الحياة وكذا عن صهوة فنّ كوميدي مُستعصٍ على بساطته على كثير ممّن تناسلوا على درب فنّ الإضحاك،
الذي صار مهنة مَن لا مهنةَ له في أزمنة بات فيها حمل لقب “فنان” مُتاحاً حتى لمُهرّجين “باسْلين” قلباً وقالباً وطغت فيها الرّداءة والتفاهة في ميدان الفنّ وغيره من ميادين الإبداع،
لا سيما في ظلّ طوفان وسائط التواصل وتطبيقاته، التي كرّست التافه والسّمج والسّطحي، الذي يلامس لدى كثيرين مستنقع “الرّوتين”، اليومي وغير اليومي.
وإذا كنت قد استهللتُ مقالتي هذه بـ”أخيرا”، فلأنّ هذا الفنان الأصيل والمُبدع دون تكلّف أو تصنّع أو تطبّع عانى -وعانت معه عائلته الصّغيرة والكبيرة أيضاً- الويلات من وقاحة بعض المواقع،
التي تناسلت -بدورها- على أسلاك الإلكترون، والتي احترفت “قتل” المشاهير و”التسلّل” إلى مطابخهم،
وحتى إلى “غرف نومهم”، لتخرج علينا بـ”خبّيرات” ما أنزلت بها أعراف السّلطة الرّابعة ولا تقاليدها وضوابطها من سلطان، فقط حتى تخلق “البوز”،
الذي صار مع الأسف بالنسبة إلى هذه المواقع الرّخيصة طبعاً أهمّ من الإخبار في حدوده الدّنيا من المهنية والصّدق وتحرّي الدقّة والتأكّد من الأخبار من مصادرها،
كما هو مُتعارَف عليه في هذه المهنة، التي كانت يوماً “مُتعبة”.
بالعودة إلى فنّاننا المحبوب حضرتني، وأنا أطالع خبر وفاته المفجع في أول أيام هذه السنة، “قصّة” طريفة قديمة وقعت لي معه قبل حتى أن أعرفه، أي قبل أن أراه صوتاً وصورة..
كانت والدتي، رحمها الله، تُحبّ الاستماع إلى سْكيتشات ومسرحيات وتمثيليات “عبد الرّؤوف” الإذاعية كثيراً،
بل تكاد لا تستمع إلى غيره، خارج ما كانت تبثّه أمواج الإذاعة الوطنية من برامج وفقرات أيامَ كانت الإذاعة إذاعة،
وقبل أن “تُبتلى” أمواج الأثير من جانبها بالكثير من الملوثات السّمعية، بعدما تكاثرت الإذاعات الخاصّة، وصار كلّ من هبّ ودبّ مذيعاً ومُنشّط برامج إذاعية.
كانت المرحومة “مّي عيشة” في بداية ثمانينيات القرن الماضي تحتفظ، داخل صندوق خشبيّ عتيق تحرص على إخفائه أسفل سريرها،
بمجموعة من الأشرطة السّمعية (كاسيتْ) تضمّ عدداً من التسجيلات لمُغنّيها وفكاهيّها المُفضّل.
وكانت حين لا يعجبها أحد البرامج الإذاعية تُخرج أحد هذه الأشرطة وتحشوها في جوف المُسجّل وتستمع إلى عبد الرّؤوف بالشّغف نفسِه كما في كلّ مرّة وبالابتسامة ذاتها،
وحتى الضّحكات المُجلجلة في بعض المقاطع، وكأنما تسمعها للمرّة الأولى، وهي التي استمعت إليها عشرات المرّات، ما لم أقل مئات..
رغم ذلك كانت المرحومة تضحك من كلّ قلبها، وكنا جميعاً نقاسمها تلك اللحظات المرِحة، والصّوتُ المحبوب لـ”عبد الرّؤوف”
ينطلق من الجهاز العتيق، بقفشاته و”مشاهده” المضحكة التي نكتفي بتخيّلها، راسماً الابتسامة على وجوهنا،
ضابطاً إيقاعات فرح جماعيّ كنا ننتزعه من بين مخالب زمن صعب لم يكن فيه انتزاع الضّحكة من المُستمعين بالمَهمّة اليسيرة.
وأذكر أنني صرتُ بمرور الوقت وتكرار الاستماع إلى تلك الأشرطة بحضور الوالدة، أستغلّ انشغالها في المطبخ أو غيابها
عن المنزل لأتسلّل إلى غرفتها وأبحث عن أشرطة “عبد الرّؤوف” تحديداً بين تلك الأشرطة القليلة، الموضوعة بعضها فوق بعض بترتيب وعناية،
وأحشوها في المسجّل وأخفّض الصّوت، حتى لا تسمعني إن كانت في البيت، وألصق الجهاز بأذني وأستمتع بالإنصات إلى هذا الفكاهي الاستثنائي،
ضاحكاً ملء فمي وقلبي أيضاً، وكأنني أراه أمامي مُتجسّداً أمامي، يؤدّي حركاته البسيطة، لكنْ المُضحكة،
بخلاف ما صرنا نشاهد من بعض المُتصنّعين، الذين ربّما استطاعوا تحقيق بعض الشّهرة والمال،
لكنهم لم يستطيعوا بالضّرورة إضحاك المغاربة والترويح عنهم، كما نجح في ذلك “عبد الرّؤوف”.
لقد نجح الرّاحل في توحيد المغاربة على حبّ شخصيته المحبوبة “عبد الرّؤوف”، التي كان يتقمّصها في جلّ مسرحياته وتمثيلياته الإذاعية،
والتي صارت على كلّ لسان، إلى درجة أننا كبرنا ونحن لا نعرف أنّ “عبد الرّؤوف” ليس اسمه الحقيقي،
بل هو مُجرّد “شخصية” أجاد في أداء دورها وأبدع، بتلقائية وصدق وإحساس فنّي غابت عن كثير من المُدّعين في أزمنتنا هذه إلى أن صار “الشّخص” و”الشّخصية” واحداً..
فوداعاً عبد الرحيم التونسي، وداعاً “عبد الرّؤوف”، صانعَ فرحتنا الجماعية. وعوّض الله أسرتك الكبيرة والصّغيرة صبراً على فقدانك الموجع.
بقلم: ع. الرّزاق بوتمُزّار