بقلم: جعفر الحر
اعتاد المغاربة على الدردشة في المقاهي والخوض في كل أمور الحياة، وهي عادة تشترك فيها كل الشعوب العربية، ويعتبرونها من باب “قتل الوقت” ودردشات على الهامش إلى حين الانتهاء من رشف كأس الشاي أو القهوة او أي مشروب آخر، وغالبا ما تجد من بين الجلوس من يدعي معرفة الحقيقة المطلقة والمطلع على خبايا الأمور، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو الرياضة أو الدين، ويفتي في كل شيء، وهو الذي يطلق عليه اسم “الفاضي يعمل قاضي”.
هذه النوعية من البشر وجدت على مر التاريخ، تدعي المعرفة وتخوض في أمور تجهلها وتفتي في الشأن العام دون إنابة أو سند، سماهم الفلاسفة اليونان بالهراطقة، وهي نفس التسمية التي أطلقها المسيحيون على من يحاول تأويل الدين لمصالحه الشخصية، وسماهم الاسلام بالرويبضة وهو الرجل التافه الذي يتكلم في أمور العامة، أما في عصرنا الحالي ومع التطور التكنولوجي ووسائل التواصل الاجتماعي فيمثلهم عدد من “اليوتيوبرز” أو المؤثرون من خلال شبكات التواصل الاجتماعي.
كانت دردشات المقاهي تنتهي بانتهاء المشروب ولا يعلمها إلا الجلوس، أما دردشات مقاهي الأنترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي فهي تمتد إلى الجمهور، وهنا تكمن الخطورة، لأنها سيف ذو حدين، فإذا نُقِلت عن علماء وعارفين وتضمنت معلومات وإفادات كانت خيرا، أما إذا تكلم بها الرويبضة والهراطقة والسفهاء فهي شر وبلاء على الناس لأنها تتضمن المغالطات وتشوه الحقائق وتخلق البلبلة بين الناس، خاصة وأن العامة ميالون لتصديق الإشاعة وكل ما يدغدغ العواطف.
وتختلف منطلقات رويبضة “اليوتيوبرز” في دردشاتها وخرجاتها الإعلامية، فمنهم من يبتغي الشهرة التي تعني في لغتهم “البووز”، ومنهم من يقصد الربح المادي من خلال الكذب والتضخيم ومهاجمة أشخاصا معروفين –سواء كانوا مسؤولين في الدولة أو فنانين ورياضيين مشهورين- بغرض إثارة فضول الجمهور والدخول لمواقعهم وتسجيل الإعجاب (اللايك) أو التفاعل من خلال التعليق، وكل ذلك يعني أموالا تدخل في حساباتهم، ومنهم من تحركه نزعة زرع الفتنة لمصلحة شخصية أو خارجية، ومنهم من يدفعه الحقد وحب الانتقام الأعمى لبث سمومه من خلال هذه المنصات.
رغم اختلاف منطلقاتهم وأهدافهم إلا أنهم يتوحدون في استعمال نفس القناة، وهي الانترنيت ومنصات التواصل الاجتماعي خاصة الفايسبوك، باعتبارها أكثر جماهيرية ووصولا إلى الناس دون قيد أو شرط ولا تخضع للرقابة، ومن جهة أخري، تجدهم متشابهون في الركوب على نفس القضايا التي تشغل المواطنين في زمان معين، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو دينية أو إنسانية، ومنها ينفذون لفكر المواطن ويقومون بتحويرها لخدمة أهدافهم السابقة الذكر كل حسب حاجته، وهو نوع من التخذير الإعلامي سواء كان موجها أو اعتباطيا.
ونضرب من المغرب أمثلة من الهراطقة الجدد وروبيضة الأنترنيت الذين امتهنوا الدردشات والخرجات الإعلامية عبر منصات التواصل الاجتماعي، منهم من تحركه الأحقاد وحب الانتقام كمحمد راضي الليلي الصحفى السابق بالإذاعة والتلفزة الوطنية، ومصطفى أديب الضابط السابق في الجيش المغربي، والرياضي السابق زكريا مومني، وكلهم كانوا يتغنون سابقا بمغربيتهم بهدف الحصول على امتيازات شخصية لمجرد انهم يشغلون مواقع وظيفية في خدمة الوطن وأن ذلك يجب أن يكون له مقابل مادي، ولما لم يحصلوا على مرادهم لأن خدمة الوطن غير قابلة للتفاوض والرشوة، انقلبوا على مغربيتهم وأعلنوا خيانتهم، وامتهنوا التحريض والابتزاز الإعلامي عبر وسائل التواصل.
نوع آخر من رويبضة الإعلام الذين يفتون فيما يجهلون وغرضهم الرئيسي إما الربح المادي أو تحقيق الشهرة “البووز”، نجد محمد تحفة ودنيا فيلالي، وهما من النوع الراكب على قضايا المواطنين والباحثين عما يرفع عدد المتابعات والزيارات لمواقعهم التواصلية، سواء كان من خلال تقديم منتوج هابط من نوع روتيني اليومي، أو الخوض فيما ليس لهم به علم كأمور الشأن العام والادعاء امتلاكهم للحقيقة لإثارة انتباه المتابعين حتى لو وصل بهم الأمر لمهاجمة المؤسسات مادام ذلك يرفع من رتبتهم على “الطوندونس”، ولا تخلو لغتهم التواصلية من مداعبة للأحاسيس لدرجة استعطاف المتابعين، ويعلم الجميع ان خلفياتهم الأكاديمية لا تأهلهم للخوض في مثل قضايا الشأن العام.
نوع أخر من الدخلاء على دردشات منصات التواصل الإعلامي، مثل محمد حجيب السجين السابق على خلفية تورطه في قضايا الإرهاب، لا يفقه شيئا في أبجديات الإعلام والأنترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي، ولو سألته بالأمس القريب لأفتى أنها حرام شرعا، لكن الحاجة لتفريغ حقده وإرضاء نفسه المريضة من جهة، والكسب السهل من عائدات الأنترنيت من جهة أخرى، دفعه لتحليل الحرام وولوج منصات التواصل الإعلامي لعله يتحول من نكرة إلى شخص يعرفه جيرانه في الحي على الأقل.
أمثلة أخرى -أو بالأحرى حالات مرضية أخرى- لا يتسع المجال لذكرها جميعا، استأنست الجلوس وراء شاشات الحاسوب أو الهاتف عوض كراسي المقاهي، واستسهلت التحدث عن كل شيء بمنطق “شاهد ماشفش حاجة”، وتكرار نفس الكلام والأسطوانة دون كلل أو ملل، حتى حولوا منصات التواصل الاجتماعي إلى نقمة على الناس بعدما كانت نعمة لتسهيل التواصل بين الناس وتقريب المسافات وتبادل المعلومات والأفكار فيما يخدم البشرية وتطلعاتها، لكن خطرها الأكبر يكمن في أنها تجد بعضا ممن يستمع لها ويملأ رأسه الفارغ بترهاتها ويتحول إلى قطيع يسوقه رويبضة.