بقلم: بلال التليدي
تعيش الجزائر وإسبانيا هذه الأيام حالة من القلق من جراء سلوك الدبلوماسية المغربية، وطبيعة التحالفات التي أقدمت عليها في الآونة الأخيرة، وطبيعة العلاقة التي تربطها بكل من الولايات الأمريكية وإسرائيل.
صناع القرار الجزائري، يروجون للاستهلاك الإعلامي رواية مخالفة، يحاولون بها تعبئة الداخل الجزائري ضد ما يسمونه مخططات مغربية إسرائيلية تستهدف أمن واستقرار الجزائر، ويرسمون ـ كما فعل وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة ـ صورة كاريكاتورية عن شعور المغرب بالعجز عن مواجهة الجزائر، ولجوئه إلى عقد اتفاقات أمنية وعسكرية مع إسرائيل! في حين لا تخفي الصحافة الإسبانية، بل وحتى بعض المسؤولين تخوفهم مما أسموه اللعب الكبير الذي دخل فيه المغرب، إذ باتوا ينتقدون الدبلوماسية الإسبانية ويحذرونها من الذكاء المغربي، ومن حالة العجز التي أصابت أجهزة الاستشعار الإسباني، فلم تدرك إلى اللحظة ما يخطط له المغرب، وهل سيضع إسبانيا أمام الأمر الواقع، فيجعلها في نهاية المطاف أمام ضيق الخيارات وضرورة تسليم سبتة ومليلية.
الإسبان، يدركون أن وراء السلوك الدبلوماسي المغربي، لعبا كبيرا لم تفهم مدريد بعد أوراقه ولا قواعده، ويحذرون من الانتظارية القاتلة، ومن تضييع الوقت في طلب ود المغرب وعودة العلاقات إلى طبيعتها، في اللحظة التي يرتب فيها المغرب أوراقه بكل ذكاء، ويخطو خطوات متسارعة ومربكة للمصالح «القومية» الإسبانية لاسيما في سبتة ومليلية المحتلتين، ويذكرون بـ«المقلب» الذي وقعت فيه مدريد عندما فاجأها المغرب بترسيم حدوده البحرية معها ومع موريتانيا، دون أن تدري المغازي البعيدة للسلطات المغربية من وراء ذلك.
رجال الاقتصاد في إسبانيا، سبق لهم أن نبهوا إلى الأضرار البليغة التي أحدثها الميناء المتوسطي، وكيف أدخل ميناء الجزيرة الخضراء في حالة كساد تجاري غير مسبوق، وهم اليوم، يحذرون من قتل اقتصاد مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين، وما يمكن أن ينشأ عنه من تحويل مزاج الساكنة فيهما، لجهة العودة للبلد الأصل، أو دفع الإسبانيين إلى تشديد الانتقادات لحكومة مدريد للتخلص من العبء الاقتصادي الذي تشكله المدينتان، والتخلي عنهما طواعية. أما قادة الجيش والأجهزة الاستخباراتية، فهم لم يعودوا يخفون قلقهم الشديد من دخول المغرب في تحالفات كبيرة من أجل تحويل الصحراء إلى منصة اقتصادية ضخمة تستقبل الاستثمارات العالمية، وتوجه السلع والبضائع إلى إفريقيا، ويسائلون طبيعة الاتفاقات الأمنية والعسكرية مع إسرائيل، وما إذا كانت تتضمن بالقطع إنشاء قاعدة عسكرية قرب مدينة مليلية المحتلة، كما يتساءلون عن طبيعة الصناعات العسكرية المتطورة التي سيتم توطينها في المغرب، وهل المقصود من ورائها وضع إسبانيا في حرج مواجهة حلفائها، أم دفعها دفعا إلى التخلي الطوعي عن سبتة ومليلية.
قادة الجيش في إسبانيا يتابعون سياسة المغرب بإقامة مزراب لتربية سمك التون على مشارف الحدود البحرية مع مليلية وجزر الكناري، وهم إلى اليوم، يستغربون الطريقة الحادة التي تصرف بها المغرب مع إسبانيا بعد إقدامها على استقبال زعيم الانفصاليين ابراهيم غالي على أراضيها للاستشفاء دون سابق تشاور مع الرباط، وهل كان التصعيد من جانب المغرب يخدم استراتيجية بعيدة المدى خطط المغرب لها مسبقا، وساعدته مدريد بوقوعها في هذا المحظور؟
الصحافة الإسبانية، والنشطاء السياسيون المناهضون للمصالح المغربية، يحاولون هذه الأيام إعادة قراءة الأحداث السابقة، لتكوين سردية منسجمة يفسرون بها السلوك الدبلوماسي المغربي، وذلك منذ قرار السلطات المغربية إغلاق معبري بني أنصار (صيف 2018) وسبتة (2019) أمام تجار السلع المهربة.
السلطات الإسبانية، تعرضت لضرر شديد من جراء توقيف الحركة التجارية بالمدينتين المحتلتين، حيث استثمر المغرب جائحة كورونا لفرض الأمر الواقع، مضيفا إلى معاناة المدينتين ألما آخر، بسبب توقيف خطوط النقل البحري الخاص بالمسافرين بين المغرب وإسبانيا مما زاد
المغرب، تعلم من رصيد التجربة التاريخية درسين مهمين في علاقته بإسبانيا، يتعلق الأول، بمحورية قضية الصحراء في الرهانات الاستراتيجية الإسبانية، وفي هذا كان الملك الراحل الحسن الثاني، يقول بأن العدو الحقيقي الذي يحول دون الوحدة الترابية للمغرب، ليس هو الجزائر، وإنما هي إسبانيا الذي تريد أن تمنع المغرب من تحقيق سيادته ومن فتحه لنافذة على إفريقيا. وأما الدرس الثاني، فيتعلق بالمعايير المزدوجة التي تتعامل بها إسبانيا، إذ في الوقت الذي ترفض أن تقر بسيادة المغرب على صحرائه بعد تحريرها من قبضتها، ترفض مجرد أن تطرح سبتة ومليلية في طاولة الحوار والمحادثة مع المغرب، فقد سبق للملك الحسن الثاني، أن اقترح على مدريد تشكيل خلية تفكير حول مستقبل المدينتين، وكان موقفها الرفض القاطع، ولم تتردد إسبانيا في التدخل العسكري في جزيرة ليلى، حتى تجبر المغرب على عدم التفكير في طرح الموضوع مرة أخرى.
واضح من السلوك المغربي، أنه يمضي بشكل مرتب لكسب قضيتين في آن واحد (الصحراء من جهة، وسبتة ومليلية والجزر الجعفرية من جهة ثانية) بدءا بتحويل المدنيتين المحتلتين إلى عبء ثقيل على الحكومة المركزية في مدريد، بخنقهما اقتصاديا وتجاريا، وخلق نقاش سياسي إسباني داخلي يطرح بجدية فكرة التخلي عن المدينتين، ومرورا بتقديم عروض مغرية بعيد جائحة كورونا، بما يمكن أن تلعبه الصحراء من دور في تحريك الاستثمارات الدولية نحو إفريقيا، وما سينتج عن ذلك من حركية اقتصادية تبعث بعض العافية للاقتصاديات المتهاكلة بسبب الجائحة، لتأتي الخطوة الثالثة، وهي تمنيع الموقف المغربي، من خلال تحالفات دولية، أخذ بعضها بعدا أمنيا وعسكريا، يتجه في العمق إلى وضع إسبانيا أمام الأمر الواقع، وإبطال مفعول الورقة العسكرية التي كانت تستعملها لردع المغرب ولتأمين استمرار الوضع السابق.
العدد الهائل من التمثيليات الدبلوماسية الدولية التي تم إقامتها في الأقاليم الصحراوية، تعطي صورة عن طبيعة الإغراء التي تمثله المنطقة للاقتصاديات الدولية التي ترغب في التوغل في العمق الإفريقي، وصفقات الأسلحة المتطورة التي حصل عليها المغرب مؤخرا، بما في ذلك طائرات الدرون التركية Bayraktar TB2، فضلا عن طائرات F16 الأمريكية، وما تبع ذلك من اتفاقات أمنية وعسكرية إسرائيلية بالصناعة العسكرية المتطورة في المغرب، يندرج ضمن تكتيكات تطويق خيارات مدريد، وتحييد ورقتها العسكرية. وتبقى مزارب تربية سمك التونا التي أقامها المغرب على الحدود البحرية المتاخمة لمليلية وجزر الكناري، بالونات اختبار لسياسة إسبانيا، وهل تستمر في سياسة ضبط النفس وانتظار عودة العلاقات الطبيعية مع الرباط، أم ينفد الصبر وتضطر إسبانيا للعب أوراقها وتدبير طريقة لمواجه تحالفات المغرب الدولية.
من سوء حظ إسبانيا، أن وقعت في فخ قبول دخول زعيم الانفصاليين إلى أراضيها، معطية بذلك الذريعة للمغرب لتجميد علاقاته الدبلوماسية معها، والخضوع لضغطها، والاضطرار لتعديل حكومي راحت ضحيته وزيرة الخارجية أرانشا غونزاليس لايا، ثم وقوع وزيرة الخارجية الإسبانية الجديد خوسيه مانويل ألبارس تحت طائلة الامتناع عن إقامة أي تنسيق إسباني جزائري ضد المصالح المغربية، بسبب الرغبة في عودة العلاقات إلى طبيعتها مع الرباط.
خيارات مدريد محدودة، فالاستثمار في عودة العلاقات الطبيعية مع الرباط يقتضي منها الاستجابة لشرط إنهاء ازدواجية الموقف من الصحراء، ومحاولة مواجهة السلوك الدبلوماسي المغربي باعتماد الورقة العسكرية، يعني تعرض المصالح الحيوية الإسبانية في المغرب للتهديد، ووقوع مدريد في حرج التصادم مع حلفاء دوليين. أما الجزائر، فيبدو أن الإمعان في الاعتقاد بأن المغرب يتصرف من وحي إدارة الصراع معها، يصب هو الآخر في مصلحة المغرب، الذي يستثمر بذكاء ردود فعل صناع القرار في قصر المرادية، لتنفيذ رؤيته البعيدة المدى مع مدريد.